فصل: فصل وأما ما ذكره من قول ابن إسرائيل: الأمر أمران أمر بواسطة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: جامع الرسائل **


  فصل وأما ما ذكره من قول ابن إسرائيل‏:‏ الأمر أمران أمر بواسطة

وأما ما ذكره من قول ابن إسرائيل‏:‏ الأمر أمران أمر بواسطة وأمر بغير واسطة إلى آخره - فمضمونه أن الأمر الذي بواسطة هو الأمر الشرعي الديني والذي بلا واسطة هو الأمر القدري الكوني وجعله أحد الأمرين بواسطة والآخر بغير واسطة كلام باطل فإن الأمر الديني يكون بواسطة وبغير واسطة فإن الله كلم موسى وأمره بلا واسطة وكذلك كلم محمداً صلى الله عليه وسلم وأمره ليلة المعراج وكذلك كلم آدم وأمره بلا واسطة وهي أوامر دينية شرعية وأما الأمر الكوني فقول القائل‏:‏ أنه لا بواسطة خطأ بل الله تعالى خلق الأشياء بعضها ببعض وأمر التكوين ليس هو خطاباً يسمعه المكون المخلوق فإن هذا ممتنع ولهذا قيل إن كان هذا خطاباً له بعد وجوده لم يكن قد كون به بل كان قد كون قبل الخطاب وإن كان خطاباً له قبل وجوده فخطاب المعدوم ممتنع وقد قيل في جواب هذا أنه خطاب لمعلوم لحضوره في العلم وإن كان معدوماً في العين وأما ما ذكره الفقير فهو سؤال وارد بلا ريب وأما ما ذكره عن شيخه من أن آدم كان توحيده ظاهراً وباطناً فكان قوله ‏"‏ لا تقرب ‏"‏ ظاهراً وكان أمره ‏"‏ بكل ‏"‏ باطناً فيقال‏:‏ إن أريد بكونه قال كل باطناً أنه أمره بذلك في الباطن أمر تشريع أو دين فهذا كذب وكفر وإن كان أراد أبه خلق ذلك وقدره وكونه فهذا قدر مشترك بين آدم وبين سائر المخلوقات فإنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون فكل ما كان من المكونات فهو داخل في هذا الأمر وأكل آدم من الشجرة وغير ذلك من الحوادث داخلة تحت هذا كدخول آدم فنفس أكل آدم هو الداخل تحت هذا الأمر كما دخل آدم وقول القائل‏:‏ إنه قال لآدم في الباطن كل مثل قوله أنه قال للكافر‏:‏ اكفر وللفاسق افسق والله لا يأمر بالفحشاء ولا يحب الفساد ولا يرضى لعباده الكفر ولا يوجد منه خطاب باطن ولا ظاهر للكفار والفساق والعصاة بفعل الكفر والفسوق والعصيان وإن كان ذلك واقعاً بمشيئته وقدرته وخلقه وأمره الكوني - فالأمر الكوني ليس هو أمراً للعبد أن يفعل ذلك الأمر بل هو أمر تكوين لذلك الفعل في العبد أو أمر تكوين لكون العبد على ذلك الحال فهو سبحانه هو الذي خلق الإنسان هلوعاً إذا مسه الشر جزوعاً وإذا مسه الخير منوعاً وهو الذي جعل المسلمين مسلمين كما قال الخليل‏:‏ ‏"‏ ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك ‏"‏ فهو سبحانه جعل العباد على الأحوال التي خلقهم عليها وأمره لهم بذلك أمر تكوين بمعنى أنه قال لهم‏:‏ كونوا كذلك فيكونون كذلك كما لو قال للجماد كن فيكون فأمر التكوين لا فرق فيه بين الجماد والحيوان وهو لا يفتقر إلى علم المأمور ولا إرادته ولا قدرته لكن العبد قد يعلم ما جرى به القدر في أحواله كما يعلم ما جرى به القدر في أحوال غيره وليس في ذلك علم منه بأن الله أمره في الباطن بخلاف ما أمره به في الظاهر بل أمره بالطاعة باطناً وظاهراً ونهاه عن المعصية باطناً وظاهراً وقدر ما يكون فيه من طاعة ومعصية باطناً وظاهراً وخلق العبد وجميع أعماله باطناً وظاهراً وكون ذلك بقوله‏:‏ ‏"‏ كن باطناً وظاهراً ‏"‏ وليس في القدر حجة لابن آدم ولا عذر بل القدر يؤمن به ولا يحتج به والمحتج بالقدر فاسد العقل والدين متناقض فإن القدر إن كان حجة وعذراً لزم أن لا يلام أحد ولا يعاقب ولا يقتص منه وحينئذ فهذا المحتج بالقدر يلزمه إذا ظلم في نفسه وماله وعرضه وحرمته أن لا ينتصر من الظالم ولا يغضب ولا يذمه وهذا أمر ممتنع في الطبيعة لا يمكن أحداً أن يفعله فهو ممتنع طبعاً محرم شرعاً‏.‏

ولو كان القدر حجة وعذراً لم يكن إبليس ملوماً معاقباً ولا فرعون وقوم نوح وعاد وثمود وغيرهم من الكفار ولا كان جهاد الكفار جائزاً ولا إقامة الحدود جائزاً لا قطع السارق ولا جلد الزاني ولا رجمه ولا قتل القاتل ولا عقوبة معتد بوجه من الوجوه ولما كان الاحتجاج بالقدر باطلاً في فطر الخلق وعقولهم لم تذهب إليه أمة من الأمم ولا هو مذهب أحد من العقلاء الذين يطردون قولهم فإنه لا يستقيم عليه مصلحة أحد لا في دنياه ولا آخرته ولا يمكن اثنان أن يتعاشرا ساعة واحدة إن لم يكن أحدهما ملتزماً مع الآخر نوعاً من الشرع فالشرع نور الله في أرضه وعدله بين عباده لكن الشرائع تتنوع فتارة تكون منزلة من عند الله كما جاءت به الرسل وتارة لا تكون كذلك ثم المنزلة تارة تبدل وتغير كما غير أهل الكتاب شرائعهم‏.‏

وتارة لا تغير ولا تبدل وتارة يدخل النسخ في بعضها وتارة لا يدخل‏.‏

أما القدر فإنه لا يحتج به أحد إلا عند إتباع هواه فإذا فعل فعلاً بمجرد هواه وذوقه ووجده من غير أن يكون له علم بحسن الفعل ومصلحته استند إلى القدر كما قال المشركون ‏"‏ لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء ‏"‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏"‏ كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون قل لله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين ‏"‏ فبين أنهم ليس عندهم علم بما كانوا عليه من الدين وإنما يتبعون الظن والقوم لم يكونوا ممن يسوغ لكل أحد الاحتجاج بالقدر فإنه لو خرب أحد الكعبة أو شتم إبراهيم الخليل أو طعن في دينهم لعادوه وآذوه كيف وقد عادوا النبي صلى الله عليه وسلم على ما جاء به من الدين وما فعله هو أيضاً من المقدور فلو كان الاحتجاج بالقدر حجة لكان للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم وأصحابه فإن كان كل ما يحدث في الوجود فهو مقدر فالمحق والمبطل يشتركان في الاحتجاج بالقدر إن كان الاحتجاج به صحيحاً ولكن كانوا يعتمدون على ما يعتقدونه من جنس دينهم وهم في ذلك يتبعون الظن ليس لهم به علم بل هم يخرصون‏.‏

وموسى لما قال لآدم‏:‏ لماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة فقال آدم عليه السلام فيما قال لموسى‏:‏ لم تلومني على أمر قدره الله علي قبل أن أخلق بأربعين عاماً فحج آدم موسى - لم يكن آدم عليه السلام محتجاً على فعل ما نهي عنه بالقدر ولا كان موسى ممن يحتج عليه بذلك فيقبله بل آحاد المؤمنين لا يفعل مثل هذا فكيف آدم وموسى وآدم قد تاب مما فعل واجتباه ربه وهدى وموسى أعلم بالله من أن يلوم من هو دون نبي على فعل تاب منه فكيف بنبي من الأنبياء وآدم يعلم أنه لو كان القدر حجة لم يحتج إلى التوبة ولم يجر ما جرى من خروجه من الجنة وغير ذلك ولو كان القدر حجة لكان لإبليس وغيره وكذلك موسى يعلم أنه لو كان القدر حجة لم يعاقب فرعون بالغرق ولا بنو إسرائيل بالصعقة وغيرها كيف وقد قال موسى‏:‏ ‏"‏ رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي ‏"‏ وقال‏:‏ ‏"‏ فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين ‏"‏ وهذا باب واسع وإنما كان لوم موسى لآدم من أجل المصيبة التي لحقتهم بآدم من أكل الشجرة ولهذا قال‏:‏ لماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة واللوم لأجل المصيبة التي لحقت الإنسان نوع واللوم لأجل الذنب الذي هو حق الله نوع آخر فإن الأب لو فعل فعلاً افتقر به حتى تضرر بنوه فأخذوا يلومونه لأجل ما لحقهم من الفقر لم يكن هذا كلومه لأجل كونه أذنب والعبد مأمور أن يصبر على المقدور ويطبع المأمور وإذا أذنب استغفر كما قال تعالى‏:‏ ‏"‏ فاصبر إن وعد الله حق واستغفر لذنبك ‏"‏ وقال تعالى‏:‏ ‏"‏ ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه ‏"‏ قال طائفة من السلف هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم فمن احتج بالقدر على ترك المأمور وجزع من حصول ما يكرهه من المقدور فقد عكس الإيمان والدين وصار من حزب الملحدين المنافقين وهذا حال المحتجين بالقدر فإن أحدهم إذا أصابته مصيبة عظم جزعه وقل صبره فلا ينظر إلى القدر ولا يسلم له وإذا أذنب ذنباً أخذ يحتج بالقدر فلا يفعل المأمور ولا يترك المحظور ولا يصبر على المقدور ويدعي مع هذا أنه من كبار أولياء الله المتقين وأئمة المحققين الموجودين وإنما هو من أعداء الله الملحدين وحزب الشيطان اللعين وهذا الطريق إنما يسلكه أبعد الناس عن الخير والدين والإيمان تجد أحدهم أخير الناس إذا قدر وأعظمهم ظلماً وعدواناً وأذل الناس إذا قهر وأعظم جزعاً ووهناً كما جربه الناس من الأحزاب البعيدين عن الإيمان بالكتاب والمقابلة من أصناف الناس والمؤمن إن قدر عدل وأحسن وإن قهر وغلب صبر واحتسب كما قال كعب بن زهير في قصيدته التي أنشدها للنبي صلى الله عليه وسلم التي أولها‏:‏ بانت سعاد الخ‏.‏

‏.‏

في صفة المؤمنين‏:‏ ليسوا مفاريح إن نالت رماحهم يوماً وليسوا مجازيعاً إذا نيلوا وسئل بعض العرب عن شيء من أمور النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقال‏:‏ رأيته يغلب فلا يبطر ويغلب فلا يضجر وقد قال تعالى‏:‏ ‏"‏ قالوا أإنك لأنت يوسف قال أنا يوسف وهذا أخي قد منّ الله علينا إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين ‏"‏ وقال تعالى‏:‏ ‏"‏ وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئاً ‏"‏ وقال تعالى‏:‏ ‏"‏ إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين ‏"‏ وقال تعالى‏:‏ ‏"‏ وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور ‏"‏ فذكر الصبر والتقوى في هذه المواضع الأربعة فالصبر يدخل فيه الصبر على المقدور والتقوى يدخل فيها فعل المأمور فمن رزق هذا وهذا فقد جمع له الخير بخلاف من عكس فلا يتقي الله بل يترك طاعته منبعاً لهواه ويحتج بالقدر ولا يصبر إذا ابتلى ولا ينظر حينئذ إلى القدر فإن هذا حال الأشقياء كما قال بعض العلماء‏:‏ أنت عند الطاعة قدري وعند المعصية جبري أي مذهب وافق هواك تمذهبت به يقول أنت إذا أطعت جعلت نفسك خالقاً لطاعتك فتنسى نعمة الله عليك كي أنه جعلك مطيعاً له وإذا عصيت لم تعترف بأنك فعلت الذنب بل تجعل نفسك بمنزلة المجبور عليه بخلاف مراده أو المحرك الذي لا إرادة له ولا قدرة ولا علم وكلاهما خطأ وقد ذكر أبو طالب المكي عن سهل بن عبد الله التستري أنه قال‏:‏ إذا عمل العبد حسنة فقال‏:‏ أي وربي أنا فعلت هذه الحسنة قال له ربه‏:‏ أنا يسرتك لها وأنا أعنتك عليها فإن قال أي ربي أنت أعنتني عليها ويسرتني لها قال له ربه‏:‏ أنت عملها وأجرها لك وإذا فعل سيئة فقال‏:‏ أي ربي أنت قدرت علي هذه السيئة قال له ربه‏:‏ أنت اكتسبتها وعليك وزرها فإن قال‏:‏ أي إني أذنبت هذا الذنب وأنا أتوب منه قال له ربه‏:‏ أنا قدرته عليك وأنا أغفره لك وهذا باب مبسوط في غير هذا الموضع‏.‏

وقد كثر في كثير من المنتسبين إلى المشيخة والتصوف شهود القدر فقط من غير شهود الأمر والنهي والاستناد إليه في ترك المأمور وفعل المحظور وهذا أعظم الضلال ومن طرد هذا القول والتزم لوازمه كان أكفر من اليهود والنصارى والمشركين لكن أكثر من يدخل في ذلك يتناقض ولا يطرد قوله وقول هذا القائل هو من هذا الباب فقوله‏:‏ آدم كان أمره بكل باطناً فأكل وإبليس كان توحيده ظاهراً فأمر بالسجود لآدم فرآه غيراً فلم يسجد فغير الله عليه وقال‏:‏ ‏"‏ اخرج منها ‏"‏ الآية‏.‏

فإن هذا مع ما فيه من الإلحاد كذب على آدم وإبليس فآدم اعترف بأنه هو الفاعل للخطيئة وإنه هو الظالم لنفسه وتاب من ذلك ولم يقل أن الله ظلمني ولا أن الله أمرني في الباطن بالأكل قال تعالى‏:‏ ‏"‏ فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه أنه هو التواب الرحيم ‏"‏ وقال تعالى‏:‏ ‏"‏ قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين ‏"‏ وإبليس أصر واحتج بالقدر فقال‏:‏ ‏"‏ ربي بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين ‏"‏ وأما قوله‏:‏ رآه غيراً فلم يسجد - فهذا شر من الاحتجاج بالقدر فإن هذا قول أهل الوحدة الملحدين وهو كذب على إبليس فإن إبليس لم يمتنع من السجود لكونه غيراً بل قال‏:‏ ‏"‏ أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين ‏"‏ ولم تؤمر الملائكة بالسجود ولكون آدم ليس غيراً بل المغايرة بين الملائكة وآدم ثابتة معروفة والله تعالى‏:‏ ‏"‏ علم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ‏"‏ وكانت لملائكة وآدم معترفين بأن الله مباين لهم وهم مغايرون له ولهذا قالوا‏:‏ دعوه دعا العبد ربه فآدم يقول‏:‏ ‏"‏ ربنا ظلمنا أنفسنا ‏"‏ والملائكة تقول‏:‏ ‏"‏ لا علم لنا إلا ما علمتنا ‏"‏ وتقول‏:‏ ‏"‏ ربنا وسعت كل شيء رحمةً وعلماً فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم ‏"‏ الآية وقد قال تعالى‏:‏ ‏"‏ أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون ‏"‏ وقال تعالى‏:‏ ‏"‏ أغير الله أتخذ ولياً فاطر السموات والأرض وهو يطعِم ولا يطعَم ‏"‏ وقال‏:‏ ‏"‏ أفغير الله أبتغي حكماً وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلاً ‏"‏ فلو لم يكن هناك غيره لم يكن المشركون أمروه بعبادة غير الله ولا اتخاذ غير الله ولياً ولا حكماً فلم يكونوا يستحقون الإنكار فلما أنكر عليهم ذلك دل على ثبوت غير يمكن عبادته واتخاذه ولياً وحكماً وإنه من فعل ذلك فهو مشرك بالله كما قال تعالى‏:‏ ‏"‏ فلا تدع مع الله إلهاً آخر فتكون من المعذبين ‏"‏ وقال‏:‏ ‏"‏ لا تجعل مع الله إلهاً آخر فتقعد مذموماً مخذولاً ‏"‏ وأمثال ذلك‏.‏

وأما قول القائل أن قوله‏:‏ ‏"‏ ليس لك من الأمر شيء ‏"‏ عين الإثبات للنبي صلى الله عليه وسلم كقوله‏:‏ ‏"‏ وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم ‏"‏ فهذا بناه على قول أهل الوحدة والاتحاد وجعل معنى قوله‏:‏ ‏"‏ ليس لك من الأمر شيء ‏"‏ أي فعلك هو فعل الله لعدم المغايرة وهذا ضلال عظيم من وجوه‏:‏ أحدها‏:‏ إن قوله‏:‏ ‏"‏ ليس لك من الأمر شيء ‏"‏ نزل في سياق قوله‏:‏ ‏"‏ ليقطع طرفاً من الذين كفروا أو يكبتهم فينقلبوا خائبين ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون ‏"‏ وقد ثبت في الصحيح إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو على قوم من الكفار أو يلعنهم في القنوت فلما أنزل الله هذه الآية ترك فعلم أن معناها أفراد الرب تعالى بالأمر وأنه ليس لغيره أمر بل إن شاء الله تعالى قطع طرفاً من الكفار وإن شاء كبتهم فانقلبوا بالخسارة وإن شاء تاب عليهم وإن شاء عذبهم وهذا كما قال في الآية الأخرى‏:‏ ‏"‏ قل لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء ‏"‏ ونحو ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ يقولون لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ههنا قل إن الأمر كله لله ‏"‏‏.‏

الوجه الثاني‏:‏ إن قوله‏:‏ ‏"‏ وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى ‏"‏ لم يرد به إن فعل العبد هو فعل الله تعالى كما تظنه طائفة من الغالطين فإن ذلك لو كان صحيحاً لكان ينبغي أن يقال لكل أحد حتى يقال للماشي ما مشيت إذ مشيت ولكن الله مشى ويقال للراكب وما ركبت إذ ركبت ولكن الله ركب ويقال للمتكلم ما تكلمت إذ تكلمت ولكن الله تكلم‏.‏

ويقال مثل ذلك للآكل والشارب والصائم والمصلي ونحو ذلك وطرد ذلك يستلزم أن يقال للكافر ما كفرت إذ كفرت ولكن الله كفر‏.‏

ويقال للكاذب ما كذبت إذ كذبت ولكن الله كذب‏.‏

ومن قال مثل هذا فهو ملحد خارج عن العقل والدين ولكن معنى الآية أن النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر رماهم ولم يكن في قدرته أن يوصل الرمي إلى جميعهم فإنه إذا رماهم بالتراب وقال شاهت الوجوه ولم يكن في قدرته أن يوصل ذلك إليهم كلهم فالله تعالى أوصل ذلك الرمي إليهم بقدرته يقول وما أوصلت إذ حذفت ولكن الله أوصل فالرمي الذي أثبته له ليس هو الرمي الذي نفاه عنه وهو الإيصال والتبليغ وأثبت له الحذف والإلقاء وكذلك إذا رمى سهماً فأوصلها بقدرته‏.‏

الوجه الثالث‏:‏ إنه لو فرض أن المراد بهذه الآية أن الله خالق أفعال العباد فهذا المعنى حق وقد قال الخليل‏:‏ ‏"‏ ربنا واجعلنا مسلمين لك ‏"‏ فالله هو الذي جعل المسلم مسلماً‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏"‏ إن الإنسان خلق هلوعاً إذا مسه الشر جزوعاً وإذا مسه الخير منوعاً ‏"‏ فالله هو الذي خلقه هلوعاً لكن ليس في هذا أن الله هو العبد ولا أن وجود الخالق هو وجود المخلوق ولا أن الله حال في العبد فالقول بأن الله خالق أفعال العباد حق والقول بأن الخالق حال في المخلوق أو وجوده وجود المخلوق باطل وهؤلاء ينتقلون من القول بتوحيد الربوبية إلى القول بالحلول والاتحاد وهذا عين الضلال والإلحاد‏.‏

الوجه الرابع‏:‏ إن قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله ‏"‏ لم يرد به إنك أنت الله وإنما إنك أنت رسول الله ومبلغ أمره ونهيه فمن بايعك فقد بايع الله كما أن من أطاعك فقد أطاع الله ولم يرد بذلك أن الرسول هو الله ولكن الرسول أمر بما أمر الله به فمن أطاعه فقد أطاع الله كما قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ من أطاعني فقد أطاع الله ومن أطاع أميري فقد أطاعني ومن عصاني فقد عصى الله ومن عصى أميري فقد عصاني ‏"‏ ومعلوم أن أميره ليس هو إياه ومن ظن في قوله‏:‏ ‏"‏ إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله ‏"‏ أن المراد به أن فعلك هو فعل الله أو المراد أن الله حال فيك ونحو ذلك فهو ومع جهله وضلاله بل كفره وإلحاده قد سلب الرسول خاصيته وجعله مثل غيره وذلك أنه لو كان المراد أن خالق لفعلك لكان هنا قدر مشترك بينه وبين سائر الخلق وكان من بايع أبا جهل فقد بايع الله ومن بايع مسيلمة فقد بايع الله ومن بايع قادة الأحزاب فقد بايع الله وعلى هذا التقدير فالمبايع هو الله أيضاً فيكون الله قد بايع الله إذ الله خالق لهذا ولهذا وكذلك إذا قيل بمذهب أهل الحلول والوحدة والاتحاد فإنه عام عندهم في هذا وهذا فيكون الله قد بايع الله وهذا يقوله كثير من شيوخ هؤلاء الحلولية حتى إن أحدهم إذا أمر بقتال العدو ويقول أقاتل الله ما أقدر أن أقاتل الله ونحو هذا الكلام الذي سمعناه من شيوخهم وبينا فساده لهم ضلالهم غير مرة وأما الحلول الخاص فليس هو قول هؤلاء بل هو قول النصارى ومن وافقهم من الغالية وهو باطل أيضاً فإن الله سبحانه وتعالى قال له‏:‏ ‏"‏ ليس لك من الأمر شيء ‏"‏ وقال‏:‏ ‏"‏ وإنه لما قام عبد الله يدعوه ‏"‏ وقال‏:‏ ‏"‏ سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً ‏"‏ وقال‏:‏ ‏"‏ وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا ‏"‏ وقال‏:‏ ‏"‏ لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحاً قريباً ومغانم كثيرة يأخذونها وكان الله عزيزاً حكيماً ‏"‏‏.‏

فقوله‏:‏ ‏"‏ لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة ‏"‏ يبين قوله‏:‏ ‏"‏ إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله ‏"‏ ولهذا قال‏:‏ ‏"‏ يد الله فوق أيديهم ‏"‏ ومعلوم أن يد النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كانت مع أيديهم كانوا يصافحونه ويصفقون على يده في البيعة فعلم أن يد الله التي فوق أيديهم ليست هي يد النبي صلى الله عليه وسلم ولكن الرسول عبد الله ورسوله فبايعهم عن الله وعاهدهم وعاقدهم عن الله فالذين بايعوه بايعوا الله الذي أرسله وأمره ببيعتهم ألا ترى أن كل من وكل شخصاً بعقد مع الوكيل كان ذلك عقداً مع الموكل ومن وكل نائباً له في معاهدة قوم فعاهدهم عن مستنيبه كانوا معاهدين لمستنيبه ومن وكل رجلاً في نكاح أو تزوج كان الموكل هو الزوج الذي وقع له العقد وقد قال تعالى‏:‏ ‏"‏ إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة ‏"‏ الآية ولهذا قال في تمام الآية‏:‏ ‏"‏ ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجراً عظيماً ‏"‏‏.‏

فتبين أن قول ذلك الفقير هو القول الصحيح وإن الله إذا كان قد قال لنبيه‏:‏ ‏"‏ ليس لك من الأمر شيء ‏"‏ فأيش نكون نحن وقد ثبت عنه صلى الله تعالى عليه وسلم في الصحيح أنه قال‏:‏ ‏"‏ لا تطروني وأما قول القائل‏:‏ ما غبت عن القلب ولا عن عيني ما بينكم وبيننا من بين فهذا القول مبني على قول هؤلاء وهو باطل متناقض فإن مقتضاه أنه يرى الله بعينه وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏ واعلموا أن أحداً منكم لن يرى ربه حتى يموت ‏"‏ وقد اتفق أئمة المسلمين على أن أحداً من المؤمنين لا يرى الله بعينه في الدنيا ولم يتنازعوا إلا في النبي صلى الله تعالى عليه وسلم مع أن جماهير الأئمة على أنه لم يره بعينه في الدنيا وعلى هذا دلت الآثار الصحيحة الثابتة عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم والصحابة وأئمة المسلمين‏.‏

ولم يثبت عن ابن عباس ولا عن الإمام أحمد وأمثالهما أنهم قالوا‏:‏ رأى ربه بعينه بل الثابت عنهم إما إطلاق الرؤية وإما تقييدها بالفؤاد وليس في شيء من أحاديث المعراج الثابتة أنه رآه بعينه وقوله‏:‏ ‏"‏ أتاني البارحة ربي في أحسن صورة ‏"‏ الحديث الذي رواه الترمذي وغيره إنما كان بالمدينة في المنام هكذا جاء مفسراً وكذلك أم الطفيل وحديث ابن عباس وغيرهما مما فيه رؤية ربه إنما كان بالمدينة كما جاء مفسراً في الأحاديث والمعراج كان بمكة كما قال‏:‏ ‏"‏ سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ‏"‏ وقد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع وقد ثبت بنص قرآني أن موسى قيل له‏:‏ ‏"‏ لن تراني ‏"‏ وأن رؤية الله أعظم من إنزال كتاب من السماء فمن قال أن أحداً من الناس يراه فقد زعم أنه أعظم من موسى بن عمران ودعواه أعظم من دعوى من ادعى أن الله أنزل عليه كتاباً من السماء‏.‏

المسلمون في رؤية الله على ثلاثة أقوال فالصحابة والتابعون وأئمة المسلمين على أن الله يرى في الآخرة بالأبصار عياناً وأن أحداً لا يراه في الدنيا بعينه لكن يرى في المنام ويحصل للقلوب في المكاشفات والمشاهدات ما يناسب حالها ومن الناس من تقوى مشاهدة قلبه حتى يظن أنه رأى ذلك بعينه وهو غالط ومشاهدات القلوب تحصل بحسب إيمان العبد ومعرفته في صورة مثالية كما قد بسط في غير هذا الموضع‏.‏

والقول الثاني‏:‏ قول نفاة الجهمية أنه لا يرى في الدنيا ولا في الآخرة‏.‏

والثالث‏:‏ قول من يزعم أنه يرى في الدنيا والآخرة‏.‏

وحلولية الجهمية يجمعون بين النفي والإثبات فيقولون أنه لا يرى في الدنيا ولا في الآخرة وأنه يرى في الدنيا والآخرة وهذا قول ابن عربي صاحب الفصوص وأمثاله لأن الوجود المطلق الساري في الكائنات لا يرى وهو وجود الحق عندهم‏.‏

ثم من أثبت الذات قال‏:‏ يرى متجلياً فيها ومن فرق بين المطلق والمعين قال‏:‏ لا يرى إلا مقيداً بصورة وهؤلاء قولهم دائر بين أمرين‏:‏ إنكار رؤية الله وإثبات المخلوقات ويجعلون المخلوق هو الخالق أو يجعلون الخالق حالاً في المخلوق وإلا فتفريقهم بين الأعيان الثابتة في الخارج وبين وجودها هو قول من يقول بأن المعدوم شيء في الخارج وهو قول باطل وقد ضموا إليه أنهم جعلوا نفس وجود المخلوق هو وجود الخالق وأما التفريق بين المطلق والمعين مع أن المطلق لا يكون هو في الخارج مطلقاً يقتضي أن يكون الرب معدوماً وهذا هو جحود الرب وتعطيله وإن جعلوه ثابتاً في الخارج جعلوه جزءاً من الموجودات فيكون الخالق جزءاً من المخلوق أو عرضاً قائماً بالمخلوق وكل هذا مما يعلم فساده بالضرورة وقد بسط هذا في غير هذا الموضع‏.‏

وأما تناقضه فقوله‏:‏ ما غبت عن القلب ولا عن عيني ما بينكم وبيننا من بين يقتضي المغايرة وأن المخاطَب غير المخاطِب وأن المخاطب له عين قلب لا يغيب عنها المخاطب بل يشهده القلب والعين والشاهد غير المشهود‏.‏

وقوله‏:‏ ما بينكم وبيننا من بين فيه إثبات ضمير المتكلم وضمير المخاطب وهذا إثبات لاثنين وإن قالوا مظاهر ومجالي قيل فإن كانت المظاهر والمجالي غير الظاهر المتجلي فقد ثبتت التثنية وبطل التعدد وإن كان هو إياها فقد بطلت الوحدة فالجمع بينهما تناقض وقول القائل‏:‏ إن أراد الاتحاد المطلق فالمفارق هو المفارق وهو الطبع وظلم الطبع وهو المخاطب بقوله‏:‏ ‏"‏ وكن متحداً بالله وهو المخاطب بقوله‏:‏ ‏"‏ كل دعواك محال ‏"‏ وهو القائل هذا القول وفي ذلك من التناقض ما لا يخفى‏.‏

وإن أراد الاتحاد المقيد فهو ممتنع لأن الخالق والمخلوق إذا اتحدا فإن كانا بعد الاتحاد اثنين كما كانا قبل الاتحاد فذلك تعدد وليس باتحاد وإن كانا استحالا إلى شيء ثالث كما يتحد الماء واللبن والنار والحديد ونحو ذلك مما يشبه النصارى بقولهم في الاتحاد لزم من ذلك أن يكون الخالق قد استحال وتبدلت حقيقته كسائر ما يتحد مع غيره فإنه لا بد أن يستحيل وهذا ممتنع على الله ينزه الله عن ذلك لأن الاستحالة تقتضي عدم ما كان موجود أو الرب تعالى واجب الوجود بذاته وصفاته اللازمة له يمتنع العدم على شيء من ذلك ولأن صفات الرب اللازمة له صفات كمال فعدم شيء منها نقص تعالى الله عنه ولأن اتحاد المخلوق بالخالق يقتضي أن العبد متصف بالصفات القديمة اللازمة لذات الرب وذلك ممتنع على العبد المحدث المخلوق فإن العبد يلزمه الحدوث والافتقار والذل وصفات الرب تعالى اللازمة القدم والغنى والعزة وهو سبحانه قديم غني عزيز بنفسه يستحيل عليه نقيض ذلك فاتحاد أحدهما بالآخر يقتضي أن يكون الرب متصفاً بنقيض صفاته من الحدوث والفقر والذل والعبد متصفاً بنقيض صفاته من القدم والغنى الذاتي والعز الذاتي وكل ذلك ممتنع وبسط هذا يطول ولهذا سئل الجنيد عن التوحيد فقال‏:‏ التوحيد إفراد الحدوث عن القدم‏.‏

فبين أنه لا بد من تمييز المحدث عن القديم ولهذا اتفق أئمة المسلمين على أن الخالق بائن عن مخلوقاته ليس في مخلوقاته شيء من ذاته ولا في ذاته شيء من مخلوقاته بل الرب رب والعبد عبد ‏"‏ إن كل من في السموات والأرض إلا آتي الرحمن عبداً لقد أحصاهم وعدهم عداً وكلهم آتية يوم القيامة فرداً ‏"‏ وإن كان المتكلم بهذا البيت أراد الاتحاد الوصفي وهو أن يحب العبد ما يحبه الله ويبغض ما يبغضه الله ويرضى بما يرضي الله ويغضب لما يغضب الله ويأمر بما يأمر الله وينهى عما ينهى الله ويوالي من يواليه الله ويعادي من يعاديه الله ويحب لله ويبغض لله ويعطي لله ويمنع لله بحيث يكون موافقاً لربه تعالى فهذا المعنى حق وهو حقيقة الإيمان وكماله وفي الحديث الذي رواه البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏ يقول الله تعالى من عادى لي ولياً فقد بارزني بالمحاربة وما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يمشي ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذ بي لأعيذنه وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفسي عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته ولا بد له منه ‏"‏‏.‏

وهذا الحديث يحتج به أهل الوحدة وهو حجة عليهم من وجوه كثيرة منها أنه قال‏:‏ ‏"‏ من عادى لي ولياً فقد بارزني بالمحاربة ‏"‏ فأثبت نفسه ووليه ومعادي وليه وهؤلاء ثلاثة ثم قال‏:‏ ‏"‏ وما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه ولا يزال عبدي يتقرب لي بالنوافل حتى أحبه ‏"‏ فأثبت عبداً يتقرب إليه بالفرائض ثم بالنوافل وأنه لا يزال يتقرب بالنوافل حتى يحبه فإذا أحبه كان العبد يسمع به ويبصر به ويبطش به ويمشي به وهؤلاء هو عندهم قبل أن يتقرب بالنوافل وبعده هو عين العبد وعين غيره من المخلوقات فهو بطنه وفخذه لا يخصون ذلك بالأعضاء الأربعة المذكورة في الحديث فالحديث مخصوص بحال مقيد وهم يقولون بالإطلاق والتعميم فأين هذا من هذا وكذلك قد يحتجون بما في الحديث الصحيح إن الله يتجلى لهم يوم القيامة ثم يأتيهم في صورة غير الصورة التي رأوه فيها أول مرة فيقول‏:‏ أنا ربكم فيقولون‏:‏ نعوذ بالله منك هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا فإذا جاء ربنا عرفناه ثم يأتيهم في الصورة التي رأوه فيها أول مرة فيقول‏:‏ أنا ربكم فيقولون‏:‏ أنت ربنا‏.‏

فيجعلون هذا حجة لقولهم أنه يرى في الدنيا في كل صورة بل هو كل صورة وهذا الحديث حجة عليهم - في هذا - أيضاً فإنه لا فرق عندهم بين الدنيا والآخرة وهو عندهم في الآخرة فالمنكرون الذين قالوا نعوذ بالله منك حتى يأتينا ربنا هؤلاء الملاحدة يقولون أن العارف يعرفه في كل صورة فإن الذين أنكروه يوم القيامة في بعض الصور كان لقصور معرفتهم وهذا جهل منهم فإن الذين أنكروه يوم القيامة ثم عرفوه لما تجلى لهم في الصورة التي رأوه فيها أول مرة هم الأنبياء والمؤمنون وكان إنكارهم مما حمدهم سبحانه وتعالى عليه فإنه امتحنهم بذلك حتى لا يتبعوا غير الرب الذي عبدوه فلهذا قال في الحديث وهو يسألهم ويثبتهم‏:‏ ‏"‏ وقد نادى المنادي ليتبع كل قوم ما كانوا يعبدون ‏"‏ ثم يقال لهؤلاء الملاحدة إذا كان عندهم هو الظاهر في كل صورة فهو المنكِر وهو المنكَر كما قال بعض هؤلاء لآخر من قال لك‏:‏ إن في الكون سوى الله فقد كذب وقال له الآخر‏:‏ فمن هو الذي كذب وذكر ابن عربي أنه دخل على مريد له في الخلوة وقد جاءه الغائط فقال ما أبصر غيره أبول عليه فقال له شيخه‏:‏ فالذي يخرج من بطنك من أين هو قال‏:‏ فرجت عني‏.‏

ومر شيخان منهم التلمساني هذا والشيرازي على كلب أجرب ميت فقال الشيرازي للتلمساني‏:‏ هذا أيضاً من ذاته فقال التلمساني‏:‏ هل ثم شيء خارج عنها وكان التلمساني قد أضل شيخاً زاهداً عابداً ببيت المقدس يقال له أبو يعقوب المغربي المبتلى حتى كان يقول‏:‏ الوجود واحد وهو الله ولا أرى الواحد ولا أرى الله‏.‏

ويقول نطق الكتاب والسنة بثنوية الوجود والوجود واحد لا ثنوية فيه ويجعل هذا الكلام له تسبيحاً يتلوه كما يتلو التسبيح‏.‏

وأما قول الشاعر‏:‏ فشاهد حقاً حين يشهده الهوى بأن صلاة العارفين من الكفر فهذا الكلام مع أنه كفر هو كلام جاهل لا يتصور ما يقول فإن الفناء والغيب هو أن يغيب بالمذكور عن الذكر وبالمعروف عن المعرفة وبالمعبود عن العبادة حتى يفنى من لم يكن ويبقى من لم يزل وهذا مقام الفناء الذي يعرض لكثير من السالكين لعجزهم عن كمال الشهود المطابق للحقيقة بخلاف الفناء الشرعي فمضمونه الفناء بعبادته عن عبادة ما سواه وبحبه عن حب ما سواه وبخشيته عن خشية ما سواه وبطاعته عن طاعة ما سواه فإن هذا تحقيق التوحيد والإيمان‏.‏

وأما النوع الثالث‏:‏ من الفناء وهو الفناء عن وجود السوى بحيث يرى أن وجود الخالق هو وجود المخلوق - فهذا هو قول هؤلاء الملاحدة أهل الوحدة والمقصود هنا أن قوله يغيب عن المذكور كلام جاهل قال‏:‏ هذا لا يحمد أصلاً بل المحمود أن يغيب بالمذكور عن الذكر لا يغيب عن المذكور في سطوات الذكر اللهم إلا أن يريد أنه غاب عن المذكور فشهد المخلوق وشهد أنه الخالق ولم يشهد الوجود إلا واحداً ونحو ذلك من المشاهد الفاسدة فهذا شهود أهل الإلحاد لا شهود الموحدين ولعمري إن من شهد هذا الشهود الإلحادي فإنه يرى صلاة العارفين من الكفر وأما قول القائل‏:‏ أنظر لتراني منظراً معتبراً ما فيّ سوى وجود من أوجدني فهو من قول هؤلاء الملاحدة وأقوالهم كفر متناقض باطل في العقل والدين فإنه إذا لم يكن فيه إلا وجود من أوجده كان ذلك الوجود هو الكون المنادي وهو المخاطب المنادى وهو الأشتات المؤلفة المفرقة وهو المخاطب الذي قيل له‏:‏ انظر وحينئذ يكون الوجود الواجب القديم الأزلي قد أوجد نفسه وفرقها وألفها فهذا جمع بين النقيضين فالواجب هو الذي لا تقبل ذاته العدم فممتنع أن يكون الشيء الواحد قابلاً للعدم غير قابل للعدم والقديم هو الذي لا أول لوجوده والمحدث هو الذي له أول فيمتنع كون الشيء الواحد قديماً محدثاً ولولا أن قد علم مرادهم بهذا القول لأمكن أن يراد بذلك‏:‏ ما في سوى الوجود الذي خلقه من أوجدني وتكون إضافة الوجود إلى الله إضافة الملك لكن قد علم أنه لم يرد هذا ولأن هذه العبارة لا تستعمل في هذا المعنى وإنما يراد بوجود الله وجود ذاته لا وجود مخلوقاته وهكذا قول القائل‏:‏ وله ذات وجود ال كون الحق شهود أنه ليس لموجو د سوى الحق وجود مراده أن وجود الكون هو نفس وجود الحق وهذا هو قول أهل الوحدة وإلا فلو أراد أن وجود كل موجود من المخلوقات هو من الحق تعالى فليس لشيء موجود من نفسه وإنما وجوده من ربه والأشياء باعتبار أنفسها لا تستحق سوى العدم وإنما حصل لها الوجود من خالقها وبارئها فهي دائمة الافتقار إليه لا تستغني عنه لحظة لا في الدنيا ولا في الآخرة - لكان قد أراد معنى صحيحاً وهو الذي عليه أهل العقل والدين من الأولين والآخرين وهؤلاء القائلون بالوحدة قولهم متناقض ولهذا يقولون الشيء ونقيضه وإلا فقوله‏:‏ منه وإلى علاه يبدي ويعيد يناقض الوحدة فمن هو البادئ والعائد منه وإليه إذا لم يكن إلا واحد وقوله‏:‏ وما أنا في طراز الكون شيء لأني مثل ظل مستحيل يناقض الوحدة لأن الظل مغاير لصاحب الظل فإذا شبه المخلوق بالظل لزم إثبات اثنين كما إذا شبهه بالشعاع فإن شعاع الشمس ليس هو نفسه قرص الشمس وكذلك إذا شبهه بضوء السراج وغيره والنصارى تشبه الحلول والاتحاد بهذا‏.‏

وقلت لمن حضرني منهم بشيء من هذا‏:‏ فإذا كنتم تشبهون المخلوق بالشعاع الذي للشمس والنار والخالق بالنار والشمس فلا فرق في هذا بين المسيح وغيره فإن كل ما سوى الله على هذا هو بمنزلة الشعاع والضوء فما الفرق بين المسيح وبين إبراهيم وموسى بل ما الفرق بينه وبين سائر المخلوقات على هذا وجعلت أردد عليه هذا الكلام وكان في المسجد جماعة حتى فهمه جيداً وتبين له وللحاضرين أن قولهم باطل لا حقيقة له وإن ما أثبتوه للمسيح إما ممتنع في حق كل أحد وإما مشترك بين المسيح وغيره وعلى التقديرين فتخصيص المسيح بذلك باطل وذكرت له أنه ما من آية جاء بها المسيح إلا وقد جاء موسى بأعظم منها فإن المسيح صلى الله عليه وسلم وإن كان جاء بإحياء الموتى فالموتى الذين أحياهم الله على يد موسى أكثر كالذين قالوا‏:‏ ‏"‏ لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتهم الصاعقة ‏"‏ ثم أحياهم الله بعد موتهم وقد جاء بإحياء الموتى غير واحد من الأنبياء والنصارى يصدقون بذلك وأما جعل العصا حية فهذا أعظم من إحياء الميت فإن الميت كانت فيه حياة فردت الحياة إلى محل كانت فيه الحياة وأما جعل خشبة يابسة حيواناً تبتلع العصي والحبال فهذا أبلغ في القُدر وأقدر فإن الله يحيي الموتى ولا يجعل الخشب حياة‏.‏

وأما إنزال المائدة من السماء فقد كان ينزل على عسكر موسى كل يوم من المن والسلوى وينبع لهم من الحجر من الماء ما هو أعظم من ذلك فإن الحلو أو اللحم دائماً هو أجل في نوعه وأعظم في قدره مما كان على المائدة من الزيتون والسمك وغيرهما وذكرت له نحواً من ذلك مما تبين أن تخصيص المسيح بالاتحاد ودعوى الإلهية ليس له وجه وإن سائر ما يذكر فيه أما أن يكون مشتركاً بينه وبين غيره من المخلوقات وإما أن يكون مشتركاً بينه وبين غيره من الأنبياء والرسل مع أن بعض الرسل كإبراهيم وموسى قد يكون أكمل في ذلك منه وأما خلقه من امرأة بلا رجل فخلق حواء من رجل بلا امرأة أعجب من ذلك فإنه خلق من بطن امرأة وهذا معتاد بخلاف الخلق من ضلع رجل فإن هذا ليس بمعتاد فما من أمر يذكر في المسيح صلى الله عليه وسلم إلا وقد شركه فيه أو فيما هو أعظم منه غيره من بني آدم‏.‏

فعلم قطعاً أن تخصيص المسيح باطل وأن ما يدعى له أن كان ممكناً فلا اختصاص له به وإن كان ممتنعاً فلا وجود له فيه ولا في غيره ولهذا قال هؤلاء الاتحادية أن النصارى إنما كفروا بالتخصيص وهذا أيضاً باطل فإن الاتحاد عموم وخصوص والمقصود هنا أن تشبيه الاتحادية أحدهم بالظل المستحيل يناقض قولهم بالوحدة وكذلك قول الآخر‏:‏ أحن إليه وهو قلبي وهل يرى سواي أخو وجد يحن لقلبه ويحجب طرفي عنه إذ هو ناظري وما بعده إلا لإفراط قربه هو مع ما قصده به من الكفر والاتحاد كلام متناقض فإن حنين الشيء إلى ذاته متناقض ولهذا قال وهل يرى أخو وجد يحن لقلبه وقوله‏:‏ وما بعده إلا لإفراط قربه متناقض فإنه لا قرب ولا بعد عند أهل الوحدة فإنها تقتضي أن يقرب أحدهما من الآخر والواحد لا يقرب من ذاته ويبعد من ذاته‏.‏

وأما قول القائل‏:‏ التوحيد لا لسان له والألسنة كلها لسانه - فهذا أيضاً من قول أهل الوحدة وهو مع كفره قول متناقض فإنه يعلم بالاضطرار من دين الإسلام أن لسان الشرك لا يكون له لسان التوحيد وأن أقوال المشركين الذين قالوا‏:‏ ‏"‏ لا تذرن آلهتكم ولا تذرن وداً ولا سواعاً ولا يغوث ويعوق ونسراً ‏"‏ والذين قالوا‏:‏ ‏"‏ ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى ‏"‏ والذين قالوا ‏"‏ وما نحن بتاركي آلهتنا وما نحن لك بمؤمنين إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء ‏"‏ والذين قالوا‏:‏ ‏"‏ حرقوه وانصروا آلهتكم ‏"‏ ونحو هؤلاء لسان هذا هو لسان التوحيد‏.‏

وأما تناقض هذا القول على أصلهم فإن الوجودان كان أحداً كان إثبات التعدد تناقضاً فإذا قال القائل‏:‏ الوجود واحد وقال الآخر‏:‏ ليس بواحد بل يتعدد كان هذان قولين متناقضين فيمتنع أن يكون أحدهما هو الآخر وإذا قال الألسنة كلها لسانه فقد صرح بالتعدد في قوله‏:‏ الألسنة كلها وذلك يقتضي أن لا يكون هذا اللسان هو هذا اللسان فثبت التعدد وبطلت الوحدة وكل كلام لهؤلاء ولغيرهم فإنه ينقض قولهم فإنهم مضطرون إلى إثبات التعدد‏.‏

فإن قالوا‏:‏ الوجود واحد بمعنى أن الموجودات اشتركت في مسمى الوجود فهذا صحيح لكن الموجودات المشتركات في مسمى الواحد لا يكون وجود هذا منها عين وجود هذا اشتراك في الاسم العام الكلي كالاشتراك في الأسماء التي يسميها النحاة اسم الجنس ويقسمها المنطقيون إلى جنس ونوع وفصل وخاصة وعرض عام فالاشتراك في هذه الأسماء هو مستلزم لتباين الأعيان وكون أحد المشتركين ليس هو الآخر وهذا مما به يعلم أن وجود الحق مباين للمخلوقات أعظم من مباينة هذا الموجود لهذا الموجود فإذا كان وجود الفلك مبايناً مخالفاً لوجود الذرة والبعوضة فوجود الحق تعالى أعظم مباينة لوجود كل مخلوق من مباينة وجود ذلك المخلوق لوجود مخلوق آخر‏.‏

وهذا وغيره مما يبين بطلان قول ذلك الشيخ حيث قال لا يعرف التوحيد إلا الواحد ولا تصح العبارة عن التوحيد وذلك لا يعبر عنه إلا بغير ومن أثبت غيراً فلا توحيد له - فإن هذا الكلام مع كفره متناقض فإن قوله‏:‏ لا يعرف التوحيد إلا واحد يقتضي أن هناك واحداً يعرفه وأن غيره لا يعرفه هذا تفريق بين من يعرفه ومن لا يعرفه وإثبات اثنين أحدهما يعرفه والآخر لا يعرفه إثبات للمغايرة بين من يعرفه ومن لا يعرفه فقوله بعد هذا من أثبت غيراً فلا توحيد له يناقض هذا وقوله‏:‏ إنه لا تصح العبارة عن التوحيد كفر بإجماع المسلمين فإن الله قد عبر عن توحيده ورسوله عبر عن توحيده والقرآن مملوء من ذكر التوحيد بل إنما أرسل الله الرسل وأنزل الكتب بالتوحيد وقد قال تعالى‏:‏ ‏"‏ واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون ‏"‏ وقال تعالى‏:‏ ‏"‏ وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون ‏"‏ ولو لم يكن عنه عبارة لما نطق به أحد وأفضل ما نطق به الناطقون هو التوحيد كما قال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ أفضل الذكر لا إله إلا الله وأفضل الدعاء الحمد لله ‏"‏ وقال‏:‏ ‏"‏ من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة ‏"‏ لكن التوحيد الذي يشير إليه هؤلاء الملاحدة وهو وحدة الوجود أمر ممتنع في نفسه لا يتصور تحققه في الخارج فإن الوحدة العينية الشخصية تمتنع في الشيئين المتعددين ولكن الوجود واحد في نوع الوجود بمعنى أن الاسم الموجود اسم عام يتناول كل أحد كما أن اسم الجسم والإنسان ونحوهما يتناول كل جسم وكل إنسان وهذا الجسم ليس هو ذاك وهذا الإنسان ليس هو ذاك وكذلك هذا الوجود ليس هو ذاك‏.‏

وقوله‏:‏ لا يصح التعبير عنه إلا بغير يقال له - أولاً - التعبير عن التوحيد يكون بالكلام والله يعبر عن التوحيد بكلام الله فكلام الله وعلمه وقدرته وغير ذلك من صفاته لا يطلق عليه عند السلف والأئمة القول بأنه الله ولا يطلق عليه بأنه غير الله لأن لفظ الغير قد يراد به ما يباين غيره وصفة الله لا تباينه ويراد به ما لم يكن إياه وصفة الله ليست إياه ففي أحد الاصطلاحين يقال إنه غير وفي الاصطلاح الآخر لا يقال إنه غير فلهذا لا يطلق أحدهما إلا مقروناً ببيان المراد لئلا يقول المبتدع إذا كانت صفة الله غيره فكل ما كان غير الله فهو مخلوق فيتوسل بذلك إلى أن يجعل علم الله وقدرته وكلامه ليس هو صفة قائمة به بل مخلوقة في غيره فإن هذا فيه من تعطيل صفات الخالق وجحد كماله ما هو من أعظم الإلحاد وهو قول الجهمية الذي كفرهم السلف والأئمة تكفيراً مطلقاً وإن كان الواحد المعين لا يكفر إلا بعد قيام الحجة التي يكفر تاركها‏.‏

وأيضاً فيقال لهؤلاء الملاحدة إن لم يكن في الوجود غير بوجه من الوجوه لزم أن يكون كلام الخلق وأكلهم وشربهم ونكاحهم وزناهم وكفرهم وشركهم وكل ما يفعلونه من القبائح هو نفس وجود الله ومعلوم أن من جعل هذا صفة لله كان من أعظم الناس كفراً وضلالاً فمن قال إنه عين وجود الله كان أكفر وأضل فإن الصفات والأعراض لا تكون عين الموجود القائم بنفسه وأئمة هؤلاء الملاحدة كابن عربي يقول‏:‏ وكل كلام في الوجود كلامه سواء علينا نثره ونظامه فيجعلون كلام المخلوقين من الكفر والكذب وغير ذلك كلاماً لله وأما هذا اللحيد فزاد على هؤلاء فجعل كلامهم وعبادتهم نفس وجوده لم يجعل ذلك كلاماً له بل يقال أن يكون هنا كلام لئلا يثبت غير آله وقد علم بالكتاب والسنة والإجماع وبالعلوم العقلية الضرورية إثبات غير الله تعالى وإن كل ما سواه من المخلوقات فإنه غير الله تعالى ليس هو الله ولا صفة من صفات الله ولهذا أنكر الله على من عبد غيره ولو لم يكن هناك غير لما صح الإنكار قال تعالى‏:‏ ‏"‏ قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون ‏"‏ وقال تعالى‏:‏ ‏"‏ قل أغير الله أتخذ ولياً ‏"‏ وقال تعالى‏:‏ ‏"‏ هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض ‏"‏ وقال تعالى‏:‏ ‏"‏ أفغير الله أبتغي حكماً وهو الذي أنزل وكذلك قول القائل‏:‏ وجدت المحبة غير المقصود لأنها لا تكون إلا من غير لغير وغير ما ثم ووجدت التوحيد غير المقصود لأن التوحيد ما يكون إلا من عبد لرب لو أنصف الناس ما رأوا عبداً ولا معبوداً - هو كلام فيه من الكفر والإلحاد والتناقض ما لا يخفى فإن الكتاب والسنة وإجماع المسلمين أثبتت محبة الله لعباده المؤمنين ومحبتهم له كقوله تعالى‏:‏ ‏"‏ والذين آمنوا أشد حباً لله ‏"‏ وقوله‏:‏ ‏"‏ يحبهم ويحبونه ‏"‏ وقوله‏:‏ ‏"‏ أحب إليكم من الله ورسوله ‏"‏ وقوله‏:‏ ‏"‏ إن الله يحب المتقين يحب المحسنين يحب التوابين ويحب المتطهرين ‏"‏‏.‏

وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح‏:‏ ‏"‏ ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان‏:‏ من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله ومن كان يكره أن يرجع في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار ‏"‏ وقد أجمع سلف الأمة وأئمتها على إثبات محبة الله تعالى لعباده المؤمنين ومحبتهم له وهذا أصل دين الخليل إمام الحنفاء عليه السلام وأول من أظهر ذلك في الإسلام الجعد بن درهم فضحى به خالد بن عبد الله القسري يوم الأضحى بواسط قال‏:‏ أيها الناس ضحوا يقبل الله ضحاياكم فإني مضح بالجعد بن درهم أنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً ولم يكلم موسى تكليماً تعالى الله عما يقول الجعد علواً كبيراً‏.‏

ثم نزل فذبحه‏.‏

وقوله‏:‏ المحبة ما تكون إلا من غير لغير وغير ما ثم - كلام باطل من كل وجه فإن قوله‏:‏ لا يكون إلا من غير ليس بصحيح فإن الإنسان يحب نفسه وليس غيراً لنفسه والله يحب نفسه وقوله ما ثم غير - باطل فإن المخلوق غير الخالق والمؤمنون غير الله وهم يحبونه فالدعوى باطلة فكل واحدة من مقدمتي الحجة باطلة - قوله‏:‏ لا تكون إلا من غير لغير وقوله‏:‏ غير ما ثم - فإن الغير موجود والمحبة تكون من المحبوب لنفسه يحب نفسه ولهذا كثير من الاتحادية يناقضه في هذا ويقول كما قال ابن الفارض‏.‏

وكذلك قوله‏:‏ التوحيد لا يكون إلا من عبد لرب ولو أنصف الناس ما رأوا عابداً ولا معبوداً - كلا المقدمتين باطل فإن التوحيد يكون من الله لنفسه فإنه يوحد نفسه بنفسه كما قال تعالى‏:‏ ‏"‏ شهد الله أنه لا إله إلا هو ‏"‏ والقرآن مملوء من توحيد الله لنفسه فقد وحد نفسه بنفسه كقوله‏:‏ ‏"‏ وإلهكم إله واحد ‏"‏ وقوله‏:‏ ‏"‏ وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين إنما هو إله واحد فاعلم أنه لا إله إلا الله ‏"‏ وأمثال ذلك وأما الثانية فقوله‏:‏ إن الناس لو أنصفوا ما رأوا عابداً ولا معبوداً - مع أنه غاية في الكفر والإلحاد كلام متناقض فإنه إذا لم يكن عابد ولا معبود بل الكل واحد فمن هم الذين لا ينصفون إن كانوا هم الله فيكون الله هو الذي لا ينصف وهو الذي يأكل ويشرب ويكفر كما يقول ذلك كثير منهم مثلما قال بعضهم لشيخه‏:‏ الفقير إذا صح أكل بالله فقال له الآخر‏:‏ الفقير إذا صح أكل الله وقد صرح ابن عربي وغيره من شيوخهم لأنه هو الذي يجوع ويعطش ويمرض ويبول وينكح وينكح وأنه موصوف بكل نقص وعيب لأن ذلك هو الكمال عندهم كما قال في الفصوص‏:‏ فالعلي لنفسه هو الذي يكون له الكمال الذي يستقصي به جميع الأمور الوجودية النسب العدمية سواء كانت محمودة عرفاً وعقلاً وشرعاً أو مذمومة عرفاً وعقلاً وشرعاً وليس ذلك إلا لمسمى الله خاصة وقال‏:‏ لا ترى الحق يظهر بصفات المحدثات وأخبر بذلك عن نفسه وبصفات النقص والذم ألا ترى المخلوق يظهر بصفات الخالق فهي كلها من أولها إلى آخرها صفات للعبد كما أن صفات العبد من أولها إلى صفات لله تعالى‏.‏

هذا المتكلم بمثل هذا الكلام يتناقض فيه فإنه يقال له‏:‏ فأنت الكامل في نفسك الذي لا ترى عابداً ولا معبوداً يعاملك بموجب مذهبك فيضرب ويوجع ويهان ويصفع ويظلم فمن فعل به ذلك واشتكى أو صاح منه وبكى وقيل له ما ثم غير ولا عابد ولا معبود فلم يفعل بك هذا غيرك بل الضارب هو المضروب والشاتم هو المشتوم والعابد هو المعبود فإن قال‏:‏ تظلم من نفسه واشتكى من نفسه قيل له‏:‏ فقل أيضاً عبد نفسه فإذا أثبت ظالماً أو مظلوماً وهماً واحد فأثبت عابداً ومعبوداً وهما واحد‏.‏

ثم يقال له هذا الذي يضحك ويضرب هو نفس الذي يبكي ويصيح وهذا الذي شبع وروى هو نفس هذا الذي جاع وعطش فإن اعترف بأنه غيره أثبت المغايرة وإذا أثبت المغايرة بين هذا وهذا فبين العابد والمعبود أولى وأحرى وإن قال هو هو عومل معاملة جنس السوفسطائية فإن هذا القول من أقبح السفسطة فيقال إذا كان هو هو فنحن نضربك ونقتلك والشيء قتل نفسه وأهلك نفسه والإنسان قد يظلم نفسه بالذنوب فيقول‏:‏ ‏"‏ ربنا ظلمنا أنفسنا ‏"‏ لكون نفسه أمرته بالسوء والنفس أمارة بالسوء لكن جهة أمرها ليس جهة فعلها بل لا بد من نوع تعدد إما في الذات وإما في الصفات وكل أحد يعلم بالحس والاضطرار أن هذا الرجل الذي ظلم ذاك ليس هو إياه وليس هو بمنزلة الرجل الذي ظلم نفسه وإذا كان هذا في المخلوقين فالخالق أعظم مباينة للمخلوقين من هذا لهذا سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً‏.‏

ولولا أن أصحاب هذا القول كثروا وأظهروا وانتشروا وهم عند كثير من الناس سادات الأنام ومشايخ الإسلام وأهل التوحيد والتحقيق وأفضل أهل الطريق حتى يفضلهم على الأنبياء والمرسلين وأكابر مشايخ الدين لم يكن بنا حاجة إلى بيان فساد هذه الأحوال وإيضاح هذا الضلال‏:‏ ولكن يعلم بذلك أن الضلال حد له وإنه إذا كررت العقول لم يبق لضلالها حد معقول فسبحان من فرق في نوع الإنسان فجعل منه من هو أفضل العالمين وجعل منه من هو من شرار الشياطين ولكن تشبيه هؤلاء بالأنبياء والأولياء كتشبيه مسيلمة الكذاب بسيد أولي الألباب هو الذي يوجب جهاد الملحدين الذين يفسدون الدنيا والدين والمقصود هنا رد هذه الأقوال وبيان الهدى من الضلال وأما توبة من قالها وموته على الإسلام فهذا يرجع إلى الملك العلام فإن الله يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ومن الممكنات أنه قد تاب جل أصحاب هذه المقالات والله تعالى غافر الذنب قابل التوب شديد العقاب والذنب وإن عظم والكفر وإن غلظ وجسم فإن التوبة تمحو ذلك كله والله سبحانه لا يتعاظمه ذنب أن يغفره لمن تاب بل يغفر الشرك وغيره للتائبين كما قال تعالى‏:‏ ‏"‏ قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم ‏"‏ وهذه الآية عامة مطلقة لأنها للتائبين وأما قوله‏:‏ ‏"‏ إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ‏"‏ فإنها مقيدة خاصة لأنها في حق غير التائبين لا يغفر لهم الشرك وما دون الشرك معلق بمشيئة الله تعالى‏.‏

والحكاية المذكورة عن الذي قال إنه التقم العالم كله وأراد أن يقول أنا الحق وأختها التي قيل فيها إن الإلهية لا يدعها إلا أجهل خلق الله وأعرف خلق الله - هو من هذا الباب والفقير الذي قال ما خلق الله أقل عقلاً ممن ادعى أنه إلى مثل فرعون ونمرود وأمثالهما هو الذي نطق بالصواب وسدد الخطاب ولكن هؤلاء الملاحدة يعظمون فرعون وأمثاله ويدعون أنهم من موسى وأمثاله حتى إنه حدثني بهاء الدين عبد السيد الذي كان قاضي اليهود وأسلم وحسن إسلامه وكان قد اجتمع بالشيرازي أحد شيوخ هؤلاء ودعاه إلى هذا القول وزينه له فحدثني بذلك فبينت له ضلال هؤلاء وكفرهم وإن قولهم من جنس قول فرعون فقال لي‏:‏ إنه لما دعاه حسن الشيرازي قال له‏:‏ قولكم هذا يشبه قول فرعون فقال‏:‏ نعم ونحن على قول فرعون وكان عبد السيد لم يسلم بعد فقال‏:‏ أنا لا أدع موسى وأذهب إلى فرعون قال له‏:‏ ولم قال‏:‏ لأن موسى أغرق فرعون فانقطع فاحتج عليه بالنصر القدري الذي نصر الله موسى لا بكونه كان رسولاً صادقاً قلت لعبد السيد‏:‏ وأقر لك أنه على قول فرعون قال‏:‏ نعم قلت‏:‏ فمن سمع إقرار الخصم لا يحتاج إلى بينة أنا كنت أريد أن أبين لك أن قولهم هو قول فرعون فإذا كان قد أقر بهذا حصل المقصود‏.‏

فهذه المقالات وأمثالها من أعظم الباطل وقد نبهنا على بعض ما به يعرف معناها وأنه باطل والواجب إنكارها فإن إنكار هذا المنكر الساري في كثير من المسلمين أولى من إنكار دين اليهود والنصارى الذي لا يضل به المسلمون لا سيما وأقوال هؤلاء شر من قول اليهود والنصارى ومن عرف معناها واعتقدها كان من المنافقين الذين أمر الله بجهادهم بقوله تعالى‏:‏ ‏"‏ جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ‏"‏ والنفاق إذا عظم كان صاحبه شراً من كفار أهل الكتاب وكان في الدرك الأسفل من النار‏.‏

وليس لهذه المقالات وجه سائغ ولو قدر أن بعضها يحتمل في اللغة معنى صحيحاً فإن ما يحمل عليها إذا لم يعرف مقصود صاحبها وهؤلاء قد عرف مقصودهم كما عرف دين اليهود والنصارى والرافضة ولهم في ذلك كتب مصنفة وأشعار مؤلفة وكلام يفسر بعضه بعضاً وقد علم مقصودهم بالضرورة فلا ينازع في ذلك إلا جاهل لا يلتفت إليه ويجب بيان معناها وكشف مغزاها لمن أحسن الظن بها أو خيف عليه أن يحسن الظن بها وأن يضل فإن ضرر هذه على المسلمين أعظم من ضرر السموم التي يأكلونها ولا يعرفون أنها سموم وأعظم من ضرر السراق والخونة الذين لا يُعرفون أنهم سراق وخونة فإن هؤلاء غاية ضررهم موت الإنسان أو ذهاب ماله وهذه مصيبة في دنياه قد تكون سبباً لرحمته في الآخرة وأما هؤلاء فيسقون الناس شراب الكفر والإلحاد في آنية أنبياء الله وأوليائه ويلبسون ثياب المجاهدين في سبيل الله وهم في الباطن من المحاربين لله ورسوله ويظهرون كلام الكفار والمنافقين في قوالب ألفاظ أولياء الله المحققين فيدخل الرجل معهم على أن يصير مؤمناً ولياً لله فيصير منافقاً عدواً لله‏.‏

ولقد ضربت لهم مرة مثلاً بقوم أخذوا طائفة من الحجاج ليحجوا بهم فذهبوا بهم إلى قبرص فقال لي بعض من كان قد انكشف له ضلالهم من أتباعهم‏:‏ لو كانوا يذهبون بنا إلى قبرص لكانوا يجعلوننا نصارى وهؤلاء يجعلوننا شراً من النصارى والأمر كما قاله هذا القائل‏.‏

وقد رأيت وسمعت عمن ظن هؤلاء من أولياء الله وأن كلامهم كلام العارفين المحققين من هو من أهل الخير والدين ما لا أحصيهم فمنهم من دخل في اتحادهم وفهمه وصار منهم ومنهم من كان يؤمن بما لا يعلم ويعظم ما لا يفهم ويصدق بالمجهولات وهؤلاء هم أصلح الطوائف الضالين وهم بمنزلة من يعظم أعداء الله ورسوله ولا يعلم أنهم أعداء الله ورسوله ويوالي المشركين وأهل الكتاب ظاناً أنهم من أهل الإيمان وأولي الألباب وقد دخل بسبب هؤلاء الجهال المعظمين لهم من الشر على المسلمين ما لا يحصيه إلا رب العالمين وهذا الجواب لم يتسع لأكثر من هذا الخطاب والله أعلم‏.‏

انتهت الرسالة‏.‏